خطبة الجمعة - حياتنا مع تعدد الأديان

7 ديسمبر 2023 بواسطة
Event Manager

عباد الله..


يتساءل كثيرون عن حدود العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين في المجتمع الواحد، حتى أن الجهل بذلك قد يقود أحياناً لحروب أهلية مثل ما حدث في لبنان لسنواتٍ عجافٍ طوال، في حين أننا نجد أن رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه كان يزور مرضى اليهود والنصارى، بل كان يقف احتراماً لجنائزهم كما ورد في البخاري.


إننا لو درسنا سيرته الكريمة لعرفنا كيف يجب علينا أن نتعامل مع من خالفنا في الدين، دونما إفراطٍ ولا تفريط.. ودعوني أذكر لكم أيها الأخوة بعضاً من الأمثلة الكثيرة جداً:


ألم يسمح رسولنا لوفدٍ نصارى نجران المكون من أربعة عشر رجلاً حينما زاروه في العام التاسع الهجري أن يقيموا صلواتهم الكنسية في المسجد النبوي نفسه؟


ألم يسِر الصحابة على نهج معلمهم وهادي الأمة صلوات الله وسلامه عليه، فعينوا في دولة المسلمين قاضياً للنصارى وآخر لليهود في كل حاضرةٍ يكثرون فيها؟


ألم يقل لكم ربكم في محكم كتابه: (لَا يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ، إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)..


هل تعلم يا أخي الكريم قصة الجامع الأموي الذي لا يزال شاهداً على أروع قصص التآلف بين المسلمين والنصارى على مر العصور؟


إنه كان مسجداً للمسلمين وكنيساً للنصارى لمدة ٧٠ عاماً كاملةً، حتى تنازل النصارى للمسلمين عن نصيبهم فيه بالكامل وصار مسجداً خالصاً.. ثم يأتي بعد ذلك من يتشدق قائلاً لنا: قاطعهوم وقاتلوهم..!! وهو هنا يعيش منتفعاً ومستمتعاً بما أتاحوه له بعدما غُلِقت الأبواب وأوصدت في بلاد المسلمين..!!


ماذا بنا؟ لماذا تصلبت عقولنا وتحجرت قلوبنا؟


لقد كان رسولنا الكريم يزور من أساء إليه، وها هو اليهودي الذي توقف عن رمي القمامة في طريقه صلى الله عليه وسلم، فعاده الرسول بعدما تعجب من توقفه وعلم بعد ذلك بمرضه.. ثم نأتي نحن فنسيء إلى من أحسنوا إلينا..!!


أي فهمٍ معوجٍ هذا؟!


ولأقص عليكم قصةً قصيرةً ذكرها ابن كثيرٍ في كتابه البداية والنهاية، أن يهودياً اسمه مُخَيْرق النضري قد شهد أحُد ‏وقال قبل المعركة: "إنْ أصِبتُ فمالي لمحمد يصنع فيه ما شاء"، ثم قال محفزاً قومَه للمشاركة في الدفاع عن المدينة: يا معشر يهود، والله لقد علمتم أن نصر محمد عليكم لحقٌّ"، وهو بذلك يذكّرهم بواجب دفاعهم عن المدينة التزاما ببنود ‘صحيفة/دستور المدينة‘.


وقد قُتل الرجل فعلاً في المعركة، فكانت تركته هي أول وقف في الإسلام على الإطلاق..! واختلف العلماء في إسلامه، فمنهم من فسر عمَله النبيلَ ذلك على أنه قد مات على الإسلام، ومنهم من قال بأنه لم يُسلم لأنه قال إن أصبت فمالي لمحمد، ولو كان مسلماً لقال للنبي أو ما شابه ذلك كما كان يفعل المسلمون.. فهل لا زلت أخي الكريم تحتاج إلى أدلةٍ كثيرةٍ تزيل عنك ما علِق من أدران الفكر؟ لا عليك.. سأذكر لك المزيد.


إن من بيننا اليوم مَن يتعجب أو ربما يتواضع فيتساءل عن: هل نشارك اليهود والنصارى في جنائزهم؟


في حين أن تاريخنا يذكر العديد من المواقف التي شيع الصحابة فيها امرأةً أو رجلاً نصرانياً، وكانوا يمشون أمام جنازاتهم، وفي المقابل شارك أهل الكتاب المسلمين تشييع كثيرٍ من أئمة المسلمين.


وفي التاريخ المعاصر يُذكر أن القُمُّصَ القبطي سرجيوس دخل الجامع الأزهر فكان أول مسيحي يعتلي منبره في التاريخ، فخطب في غير جمعةٍ في الناس وحرضهم على المشاركة في الثورة المصرية إلى جانب شيوخ الأزهر.


هكذا كانت أمتنا، راقيةً واعيةً، لا ساذجةً ولا متنطعةً بما ليس له في ديننا أصل.


إننا لا ننادي إلا بالفهم الصحي والصحيح الذي يقود لتكاتف المجتمع مثلما حدث في بعض الثورات الشبابية الحديثة، حين رفعوا المصحف والإنجيل دون أن يختلط هذا بذاك، ودون أن تميع العقائد أو تضيع الثوابت.. فشتان بين الفهم الصحيح هذا وبين التمييع الذي تنادي به نوادي الروتاري والليونز وغيرها، من أجل أن يتنازل المسلم عن إسلامه ويذوب في مجتمع لا يُعرَف فيه الحقُ من الباطل.


ونكرر بكل وضوحٍ، لا ينبغي أن ننخرط في غير الإسلام، لكننا أيضاً نؤكد أن من الإسلام حسنَ معاملة أهل الكتاب، بل ومجاملتَهم في أعيادهم ومناسباتهم، دون أن نتلفظ بما يخرجنا عن عقيدتنا.. فإن مجاملتك لأحدهم في أعياد الميلاد مثلاً، يجب ألا تشمل تلفظَك أو إيمانَك بما يعتقدون على الإطلاق، فلهم دينهم ولنا ديننا، وستظل الآيات تذكرنا بذلك كي لا ننجرف في مجاملاتٍ تخرجنا من ملتنا.


وهنا أختم الشق الأول من حديثي وأسأل الله أن يعنا على تصحيح ما بنا من أخطاءٍ تربينا عليها،.. فاللهم أعنَّا ولا تُعِنْ علينا، اللهم لا تَكِلْنا إلى أعمالنا ولا إلى أنفسنا طرفة عين، يا أرحم الراحمين.


أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم، ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فإنما قوة السيف بضاربه.


=========================


الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم


أما بعد..


عباد الله:


حاولنا في الخطبة السابقة أن نصحح بعضاً من المفاهيم الخاطئة تماماً، وعرفنا أن هناك فرقاً كبيراً بين لين الجانب والمعاملة الإسلامية الراقية لمن لم يحاربنا، وبين أن نجامل على حساب ديننا ونتنازل عنه لعيون هذا أو ذاك.. وإنما ذكرنا ما ذكرنا من أدلةٍ ثابتةٍ في السيرة والتاريخ الإسلامي، لنؤكد على حسن المعاملة بين المسلمين وأهل الكتاب في المجتمع الواحد، وهو ما نعيشه هنا على وجه الخصوص.. ولأننا نريد أن نمحو تماماً ما علق بذهن البعض من رواسب عداءٍ أَسَس لها حتى بعضُ الخطباء في الكثير من المناسباتٍ دون أن يفقهوا أو يتعبوا أنفسهم في البحث في سيرة رسولنا الكريم ونهجه مع أهل الكتاب من غير المحاربين.. فأًصبحنا نرى نوعين من الناس والشباب بين ظهرانينا، إما متساهلاً لا يدري حدوداً لتساهله هذا، وإما أعمىً جاهلاً يرى ضرورة قتال مَن لم يقاتله، بل يقاتل مَن أحسن إليه.. ووالله مرةً آخرى، إن من بيننا من يأخذ المعونة المالية منهم، ثم يشتمهم ويدعو لقتالهم..!! أي فُجرٍ وأي جهلٍ هذا؟؟!! لقد ألصق بالإسلام ما ليس منه، وهو بعمله هذا يدعوهم لعدم التفكير في الإسلام.. هل يعتقد أن بعمله هذا سيدخل الناس في ديننا أفواجاً؟ أم سيلعنون الإسلامَ والمسلمين على السواء؟!


وهنا أسمح لنفسي أن أحكيَ لكم عن شخصين تربطنا بهم علاقة أخوةٍ في مسجدنا هذا، وقد يراهما المرء في موقفٍ واحدٍ وهما أبعد ما يكونان عن بعضهما.. كلاهما يتقاضى معونة بطالةٍ من الدولة، فأما الأول فهو كهلٌ في الستين، لكنه من داخله شابٌ ناضجٌ يعرف ما يريد تماماً، وهو وإن لم يجد عملاً هنا لكبر سنه، إلا أنه جعل وظيفته الوحيدة والهامة جداً هي إتقان وإحسان تربية أبنائه، فتراهم متفوقين دراسياً وبجدارةٍ فوق أقرانهم من الألمان وغير الألمان، وهنا أشهد له بأنه أدى الأمانة مع أبنائه، فاللهم تقبل منه.. وأما الآخر فهو على قوته وعنفوانه إلا أنه يكذب على مكتب العمل كي يحصل على بدل البطالة، ويعيش على المال الأسود، أو بمعنى آخر يعيش ويطعم أولاده من حرامٍ، من مالٍ أتى بالكذب وادعاء عدم القدرة على العمل.. ثم يشتكي بأنه يكاد يفقد أولاده وبناته، وأنهم لا يحترمون دينه وينجذبون إلى الإلحاد يوماً بعد الآخر.. وهنا أقول له، لقد أطعمتَ نفسك وأولادَك من حرام، ثم تريد منهم أن يصدقوكَ وأن يحترموا دينَك الذي يحسبونه يدعو للكذب والعيش بالمال الحرام؟!


إنك إن أردتَ أن يعود لك أولادُك، فعد أنت أولاً إلى دينك الحق، ثم اجعل بعد ذلك بينك وبين الله خبيئةً، اجعل لك معه سراً عن عملٍ صالحٍ لا يعرفه أحدٌ عنك، ثم ادعه أن يردَ إليك أولادَك رداً جميلاً..


إننا نريد لقومنا أن يكونوا هم أصحاب اليد العليا، التي تعطي ولا تأخذ، فهذا هو المؤمن القوي الذي يحبه الله ورسوله، نريد لأبنائنا أن يكونوا من صفوة المجتمع علمياً ووظيفياً، كما واجتماعياً أيضاً في علاقاتِهم به، دون أن يعطوا الدنية في دينهم، ودون أن يتذللوا لأحدٍ كائناً مَن كان.


نريد ذلك، ونعمل بجدٍ لذلك.. ولا نريد منك سوى الفهمَ وإعمالَ العقل والنقل قبل أن تتجاوب معنا في رفعة أمتنا هنا أو هناك.. وأقول نريد، ولا أقول نتمنى، لأن الذي يريد يجب أن يعمل، وأما الذي يتمنى فهو لا يعمل، وهو والعدم سواءٌ.


والآن.. نريد أن نحدد بعضاً من معالم الطريق التي يجب أن نسير عليها بعدما علمنا أن التشدد لا ينبغي أن يكون في المعاملة نفسها، لكن في حفظ عقيدتنا نحن وأبنائنا، دون تزَيدٍ ودون تفريط.


والحق أن الأمر ليس سهلاً طرحه على عجالةٍ في خطبة واحدةٍ، لذا فإننا نسعى في كل مرةٍ أن نطرح جانباً واحداً عليكم لننوه إليه، ونعرضه لنتعامل به.. واليوم قد عرضنا عليكم أننا يجب أن نكون من صفوة المجتمع، لا عالةً عليه لا قيمة لنا فيه.


كن صادقاً ثم علم أولادَك الصدق، وكن نشيطاً وانهض بأبنائك للعلا، حينها سيحترمونك وستكبر في أعينهم، ولن يتجرأوا على الانتقاص منك ومن دينك.


ثم بعد ذلك اخرج للمجتمع ولا تختبئ فيه منزوياً بنفسك، وعامل الناس بما تحب أن تعامَل به، أحسن إليهم كما أمرنا ديننا الحق، ديننا الذي بسبب رقي معاملته للآخرين دخل فيه مئات الملايين بلا كلمةٍ واحدةٍ، بل فقط بحسن المعاملة، ديننا الذي ادعوا زوراً أنه قد انتشر بالسيف، رغم أن ماليزيا وأندونيسيا وغيرهما لم يدخلها محاربٌ واحدٌ من المسلمين، بل فقط تجارٌ صادقون، فكان صدقهم ورقي معاملتهم هما السبب الوحيد لدخول هؤلاء دينَ الله أفواجاً.


وأخيراً حاول أن تجتهد في التفاعل معنا، ولا تتكاسل عن المشاركة في فعالياتنا التي نريد بها تصحيح صورة المسلمين في هذا المجتمع، لربما يدخل في الإسلام بسبب رقيك الكثيرون.


وأخيراً نكرر: نحن فخر الأمم ويجب أن نكون كذلك عملياً، لا بمجرد الادعاء والتشدق.


ندعو الله العلي الكريم أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، وأن يوحد كلمتنا فيما يفيد المسلمين والمجتمع من حولنا.